هنالا أذكر اليوم الذى تعرفت فيه على محمد الجارحى، لكن أذكر أننا تزاملنا، ولنا الشرف، فى جريدة الدستور، أقوى جريدة عارضت «مبارك» ونظامه فى عز بطشه، وحينها كانت سمعة (الجارحى) التى سبقته هى كونه (صحفى شاطر وشريف) تلازمت الصفتان (المهنية والمهارة) فى محمد الذى كان مسئولاً عن ملف الاتصالات، لكن كل من عرفه شهد له بأنه لم (يتربح) منه، ولم يقبل العديد من (الرشاوى) المقنعة وقت كان الأمر (عادى)، و(مفيش حد هياخد باله).
كان «الجارحى» أحد أبرز وجوه اعتصام جريدة الدستور بعد أن تم تخريبها عمداً، وفى هذا الوقت عرفت بمرض ابنه، وبرعاية «محمد» لوالدته فى قريتهم، وبإصراره على أن يظل شريفاً مهما كانت المغريات، بعد ثورة 25 يناير، خرق «محمد» حظر النشر، ونشر شهادة المشير طنطاوى على «تويتر»، معتبراً أن المعرفة حق لا يجوز حظره، وأن قضية «مبارك» أكبر من أن تختبئ وراء قرارات غير مبررة بالمرة، وكاد يدفع الثمن، لكن الله سلم. بعدها مات «أحمد». ابنه، مات لمرة أخيرة بعد أن كان يموت أمام عينى والده الذى مات بدوره أكثر من مرة وهو يقف أمام ابنه الوحيد عاجزاً. لم أعرف أن «محمد» كان محبوباً من خصومه السياسيين، حاظياً باحترامهم، ولم أتأكد من الأمر إلا بعد أن تواصل معى الأستاذ عبدالله كمال، رحمه الله، راجياً أن يعرف مكان العزاء، وأن يذهب لـ«محمد»، أو أبلغه عزاءه نيابة عنه، وهو ما حدث وأدهش «محمد» فيما بعد، لكن «محمد» نفسه كان مدهشاً حين قرر أن يبنى مستشفى خيرياً يحمل اسم 25 يناير فى قريته، وقت أن كانت الثورة فخراً لا سبة أو تهمة أو مناسبة لينهش فيها قطاع الطرق. ظن البعض أنه مجرد حماس سيفتر بعد فترة، لكن «محمد» أعطى الجميع درساً فى التصميم والإرادة والوفاء بالوعد. كان يعمل (منفرداً) معتمداً على (السوشيال ميديا) فقط لجمع التبرعات، قبل أن تبدأ الماكينة فى إنتاج قماش، وتبرع بعد تبرع بعد تبرع بدأ الموضوع يكبر، ويكبر، و«الجارحى» يقنن أوضاعه، يذهب لوزارة التضامن الاجتماعى ليسجل جمعية خيرية تحمل اسم المستشفى خاضعاً لرقابتهم وفق القانون، يرفض الزج بالمستشفى فى أى صراع سياسى، معتبراً أن المستشفى للجميع، مدركاً أن (المحتاج) و(المريض) لا يسألهم أحد عن انتمائهم السياسى، واثقاً فى نفسه للدرجة التى جعلته يبتكر أساليب مختلفة فى التسويق لفكرته، فيبتكر مبادرة (تاكسى الخير) وينزل لزيارة الأماكن، معلناً عن الأمر فى السوشيال ميديا ليذهب إلى المتبرعين فى أماكنهم، دون أى إعلانات تليفزيونية، ليكبر حجم التبرعات، فيشترى الأرض، ثم بعض التجهيزات، ثم يبدأ فى البناء فى شفافية كاملة، متجاهلاً، وماراً، وعابراً، على العديد من الاتهامات ذات الهوى السياسى لفكرته النبيلة، ثم لما أصبح حزب كارهى ثورة 25 يناير هو الأعلى صوتاً بدأ يواجه بحملات تشويه ممنهجة لمشروعه الذى يعد أعظم ما بقى من ثورة 25 يناير فى وجهها الخيرى والتنموى الذى لو أفاق له صناعها، وتفرغوا له بعيداً عن حسابات السياسة، ربما لتغيرت الكثير من المعادلات.
كان محمد الجارحى صامداً، ولا يزال، حتى بعد أن رفضت المحافظة تعلية المستشفى، لم ييأس حتى تدخلت مؤسسة الرئاسة لتدعمه فى سعيه المحترم الذى نزل بالثورة إلى أرض الواقع لصالح الناس ممثلاً للغلابة لا ممثلاً عليهم.
قبل عدة أيام كرمت قنوات «سى بى سى» محمد الجارحى، ووصفته بالشخصية الملهمة، وفى كلمته طلب «محمد» من الحضور الوقوف دقيقة حداد على روح شهداء 25 يناير، ولم يسعدنى الحظ للانتظار فى الحفل حتى تلك اللحظة النبيلة الصادقة المخلصة، لكن أسعدنى الحظ بأن أعرف «الجارحى» الذى مهما اختلفت معه لن تختلف عليه. هذا المقال ليس عن (شخص) أو (مجاملة) كما قد يتصور البعض، فالواقع أن بعض آراء «محمد» السياسية لا يعجبنى، مثلما أن بعض آرائى السياسية لا تعجبه، لكن مساحة المودة والمحبة موصولة، ومساحة الإعجاب والتقدير تتزايد، ومساحة الدعم يجب أن تكبر وتكبر حتى يكتمل بناء المستشفى الذى يجب أن ندعمه جميعاً. هذا مقال فى حب الثورة حين تترجم لصالح الغلابة، وفى حب السوشيال ميديا حين تبنى ولا تهرى، وفى حب شهداء ثورة 25 يناير، وشهداء مصر جميعاً، وكفانا بهم فخراً وشرفاً، مثلما سنظل نفتخر ونتشرف بأننا شاركنا فى ثورة عظيمة اسمها 25 يناير حتى ولو لم يتبق منها سوى مستشفى يحمل اسمها.
لقراءة المقال على موقع جريدة الوطن اضغط هنا